المركب
التعيينات العليا في الاردن اقرب إلى السر النووي واللغز الذي لا يمكن تفسيره فهي تنجز خلف الستارة وفي الظلام وبدون منطق مفهوم وبالتأكيد بعيدا عن الشفافية وعبر اطار من المجموعات النافذة التي تستطيع دوما تصنيف وتوصيف كل شيء.
طبعا لم يعد سرا ان بعض الفئات من كبار الموظفين صالحون لكل المواقع ويمكن تدويرهم ونقلهم من هنا لهناك وكأن الدولة برمتها مشغولة بتدبر منصب رفيع لشخص محدد وهذا يحصل منذ سنوات لعدة اشخاص وغالبا ما يفتقد الشخص المعني لأي موهبة مسجلة في علم الإدارة او حتى يعرفها الجمهور وكأن أمهات الأردنيين عجزن عن إنجاب عبقرية مماثلة.
يقر مسؤول رفيع المستوى يتربع على عرش وظيفته العليا منذ اكثر من اربع سنوات بأنه لا يملك أي خبرات لها علاقة بالقطاع الخاص وانه عندما حاول أفسد شركتين كبيرتين وبالتالي لا يملك الرجل إلا العمل في وظيفة عمومية ولا يصلح إلا لموظف وهو إقرار شفاف ومحترم لو كان المعني لا يهدم بالقطاع العام ايضا ولو كان يبر بالقسم حيث يقوم بواجباته الموكولة اليه بأمانة.
لا توجد ادلة من اي نوع على ان الدولة المركزية التي يعشقها الاردنيون ويعتبرونها تمثيلا لهويتهم الوطنية والسياسية هي التي تختار وتعين الاشخاص في الوظائف العليا ضمن مواصفات ومقاييس محددة ومرسومة وفقا لعادات واعراف وتقاليد متوارثة حتى عندما يتم اسقاط حسابات الشفافية او الكفاءة والمهنية يحتار المواطن ويبحث عن تفسير.
وفي الكثير من الاحيان يحتار السياسيون ايضا.. حتى ابناء النظام والدولة ونخبة القرار تبدو مندهشة احيانا ومستغربة من طريقة مرور التعيينات على غفلة منها وبدون معيار واضح لدرجة ان صاحب الولاية العامة والدستورية وهو رئيس الوزراء في كل الحالات يضطر للتعايش مع اشخاص في مواقع الصدارة والوظائف العليا لا يختارهم ولا يعرفهم ولا توجد لديه سجلات عن خبراتهم.
في الماضي كانت التعيينات الكبرى تتم عبر نظام من المحاصصة القبلية والاجتماعية والجهوية بدا دوما ان المجتمع يقبل مثل هذه المحاصصة ولا يتمسك بمبادىء الشفافية لان التمثيل هنا يكون على الارجح منصفا وعادلا ويأخذ بالاعتبار الجانب المهني لأن الشخصيات التي تختار كانت منطقية ومهنية وسمعتها غير مجروحة لا باي نمط من انماط الفساد الاداري ولا حتى بأنماط الانتهازية والمصالح والشللية.
اليوم تتغير الاحوال في بلد ظروفه في غاية الحساسية فحتى تلك الجهات الاجتماعية التي كانت تتبادل محاصصة الوظائف العليا تشعر بالغبن لأن طبقة البيروقراطيين والتكنوقراط والخبراء المشهود لهم بالنزاهة والكفاءة وعلى الاقل بالعمل الحريص تتعرض للإقصاء لصالح طبقة جديدة من المسؤولين الذين لا يمثلون شيئا في المجتمع والذين يبدو انهم في حالة عداء وخصومة مع بيروقراطيين شرفاء من ابناء العشائر ومكونات المجتمع في المؤسستين العسكرية والمدنية انجزوا اصلا تلك المؤسسات التي يفاخر بها الاردنيون اليوم.
تبدو انماط المحاصصات غير منتمية لعائلة الدولة الحديثة والعصرية وحجم التعقيدات الاقتصادية والتشريعية والاجتماعية والامنية تطلبت تنويعا مدروسا في خيارات الكفاءات وعملية ابعاد تدريجية لاعتبارات المحاصصة على اللون الاجتماعي فقط.. رغم ذلك انجز الاردنيون من طبقة البيروقراط الكثير وتدين لهم الدولة ومعها المجتمع بالفضل في كل الاحوال لأن ما يمسك المجتمع حاليا ويحتوي العملية الادارية بالحد الادنى هو بقايا التفكير البيروقراطي النزيه لمسؤول.
حتى البيروقراطيون بالأردن من الذين راكموا الخبرة وسجلاتهم الذاتية فوق مستوى التشكيك يتم استهدافهم منهجيا وبصورة دائمة من نمطية التعيينات الغامضة التي تجري خصوصا واننا لا نتحدث هنا عن ديمقراطية حقيقية تفرز رموزها ونخبها على المستوى الاجتماعي والمؤسساتي في ادارة الدولة انما عن بلد مهووس بحسابات الديمغرافيا وظروفه الجغرافية والاقتصادية معقدة جدا ومحاط بإقليم مشتعل لكنه بقي دوما درسا للآخرين وشكل تجربة يشار لها بالبنان على صعيد الامن والاستقرار وهما صنيعة رفاق السلاح والبيروقراطيين الاوائل المحترمين بلا منازع.
لا يتم التخلص من بقايا البيروقراطيين في الدولة الاردنية لصالح خبراء تكنوقراط او رموز سياسية او وطنية او حتى حزبية بل لصالح وهنا تكمن المشكلة الاكبر نمط من الشللية يعلي من شأن بعض الضعفاء والانتهازيين ويقلص فرصة الخبراء وذوي الكفاءة ويعزل فرصة الاساسيين في المعادلة الادارية.
تلك تبدو اليوم المشكلة الابرز لقطاع الادارة الاردني الذي يشتكي من عدة امراض لكن الاخطر فيها وما رصد مؤخرا نتيجة لاستهداف البيروقراطيين القدماء واستبعادهم هو ان هذا الاقصاء انتهى بتوجيه ضربات عميقة لتلك التقاليد الادارية المستقرة التي طالما كانت عنوانا للخبرة الاردنية التي تم تصديرها لدول في الخارج وساهمت في البناء والنماء خصوصا في قطاعات التعليم والصحة.
البيروقراطيون الجدد لا علاقة لهم بالمهنية والكفاءة ولا بتلك البيروقراطية التي اختبرها الاردنيون في الماضي وهم اقرب لخليط من الشباب الطموحين والعواجيز المتحنطين الذين تكفل لهم ترتيبات اليوم الفوضوية الدور الطليعي في الصدارة والمقدمة وهنا تحديدا ترصد مأساة الادارة.
على هذا الاساس يمكن فهم ذلك العبور المضر لطبقة تعيينات عليا.