أوكرانيا ليست هي الحرب
محمد شريف الجيوسي
يتضح من خلال رسالة طلال أبوغزاله المفتوحة؛ إلى العالم حول (أزمة أوكرانيا)، أنه ليس مجرد مفكر عربي أوعالمي اقتصادي أو سياسي أو معرفي فحسب أو في مجالات الرقمنة أو التجارة أو المحاسبة أو الاستثمار أو صناعة المستقبل أو الديبلوماسية الأممية.. الخ، بل هو في ذلك كله، وأثبت أنه متابع مميز لتطور الصراعات الدولية، ولديه رؤية إستراتيجية شاملة لظروفها وأطرافها ومساراتها وتطوراتها ومآلاتها..
يؤكد أبوغزاله أن الحرب في أوكرانيا ليست حربًا أوكرانية وإنما هي حربًا أوروبية (رغم عدم وجود موقف أوروبي موحد تجاهها) وأن الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أنها (ومعها بريطانيا) طرفًا رئيسًا في إشعال الأزمة وتوريط الزعامة الأوكرانية اليهودية، بالتصعيد تجاه روسيا، إلا أنها لن تشارك على الأرض في هذه الحرب.. المختلفة عن حروب سابقة وراهنة، حيث ستخاض بحكم التطور التقني لدى أطرافها الرئيسة، عن بعد وعبر سلاح المقاطعة والعقوبات الإقتصادية المتبادلة والحصارات، وستجد العديد من دول العالم نفسها بما يشبه الضرورة أطرافًا فيها، ما يجعلها حربًا عالمية ثالثة، وبالتالي ستكون أوكرانيا (جديدة) إحدى نتائجها، وليست حربها.
تريد الأطراف الرئيسة لهذه الحرب (روسيا والصين من جانب ومعهما إيران بقدر، والولايات المتحدة وبريطانيا ومعهما بقدر أستراليا) من تحقيق طموحات كل طرف، روسيا تريد إستعادة دورها الذي هدرته نهايات الحرب الباردة، والذي لم يتوقف عند حد إنهاء النظام الإشتراكي والمنظومة الإشتراكية، بل تعداه الغرب إلى العمل لإسقاط روسيا ككيان ووطن وشعب وإقتصاد وتاريخ وكرامة.. بل وملاحقة ما حولها بثورات ليلكية معادية، ما أوقد مجددًا الروح الروسية بأن الهدف الغربي لم يكن مجرد عداء لنظام سياسي وإقتصادي خصم للإمبريالية، وإنما تعداه لإسقاط روسيا الوطن والشعب والوجود نكون أو لا نكون، الأمر الذي كرّس فلاديمير بوتين كقائد وزعيم شعبي روسي تاريخي، وجعل من نظرته (لقد أنجزنا تنظيم الاتحاد الرّوسي، ورسالتنا الرئيسة أن نهتم بمحيطنا الجيوسياسي) ضرورة روسية.
أما الصين فطموحها يتلخص في صيرورتها الأعظم إقتصاديا في العالم، وإستعادة تايوان، وقد تحقق طموحها في الجانب الاقتصادي، وبقي أن تكرس ديمومة التقدم، لكن واشنطن تعمل بكل طاقتها لتخريبه، واستعادة مكانتها كدولة أعظم إقتصادياً وتجاريًا وسياسيًا، فالدولة الأعظم إقتصاديا هي الأعظم عالميًا، وهو ما أكدته ندوة حضرها أبو غزاله، كانت مراكز دراسات أمريكية قد عقدتها عام 1989 وأكدت أنها ستفقد هذه المكانة عام 2020، وعليها العمل بحسب الندوة بكل الطرق لإستعادة هذه المكانة التي لم تعد عليها واشنطن.
وتعمل واشنطن على الحيلولة دون إستعادة الصين؛ تايوان، وتعرقل إمدادات الصين بالنفط وتفتح عليها (وعلى إيران وروسيا) جبهة أفغانستان، وعلى روسيا جبهة كازاخستان، وإضعاف الوجود العسكري والسياسي في سورية، بدعم مقصود، وبغض النظر عن الوجود التركي فيها، وإقامة القواعد العسكرية، وتشجيع إسرائيل على قصف سورية، وفي آن تفتح عليها جبهات البحر الأسود وأوكرانيا ودول شرق أوروبا المحادّة لروسيا، ومد نفوذها ونفوذ النيتو إليها.
ومن الواضح أن الولايات المتحدة ومعها بريطانيا بحاجة كليهما لتحقيق إنتصارات ما؛ لغايات الإستهلاك الداخلي، بمواجهة المنافسين السياسيين الداخليين، وتغطية الأوضاع الاقتصادية الصعبة فيهما، وتراجع مكانتهما الدولية، فإشتطتا في صلفهما السياسي تجاه روسيا والصين وإيران، وجرّا معهما دولاً أوروبية لا مصلحة حقيقية لها في هذا العداء.
لم تتعامل واشنطن ولندن بحكمة وبعد نظر مع الدول الثلاث، ولم تتعامل إيجابيا مع المقترحات الروسية، ولم تحرصا على مناقشة الخلافات بهدوء، فتوجهت موسكو للإعتراف بالجمهوريتين.. ومنحت العمليات الحربية الأوكرانية الاستفزازية الغبية بالإعتماد على الضجيج الأمريكي البريطاني الأوروبي. روسيا مشروعية وفرصة لشن عملية حربية خاصة، وهي العملية المدخل (وليست الحرب) ستتطور إلى حرب عالمية ثالثة قبل نهاية العام ، في حال استمر المحور الأمريكي بالتعامل مع الأحداث والتطورات بعقلية المستعمر الحريص على ديمومة عقليته الإستعمارية، وعليه من الأرجح إستمرار واشنطن ولندن على التصعيد والتعنت وتكريس حالتهما بعدم التراجع.
موقف الصين محسوم إلى جانب روسيا، وإن تبدت بعض التباينات، وعند الضرورة ستكونا معًا تمامًا، فمصالحهما واحدة وعدوهما واحد، ومطالبهما من الغرب واحدة إلى حد بعيد، ولا خلافات أيديولوجية، بينهما، ومصيرهما واحد، إن وقعت حرب، وستقع قبل نهاية العام.
وقد تتيح الحرب للصين إسترداد تايوان، كما حضور روسيا في أوكرانيا وتصويب المسار التاريخي..، وهما (أوكرانيا وتايوان) تعتبران امتدادا ديمغرافيا وجغرافيا وتاريخيا وأمنًا قوميًا لروسيا والصين على التوالي، ولاستقرارهما علىى غير صعيد، لذا فإن إدارة الصراع والحرب فيهما وفي المحيط أيسر بالنسبة لروسيا والصين الصاعدتين؛ منه بالنسبة لأمريكا وبريطانيا الهابطتين المأزومتين في أوضاعهما الداخلية والخارجية.
ستجد الدول الصديقة والحليفة والقريبة جغرافيًا والمتعلقة مصالحها الاقتصادية وأمنها القومي والشبيهة بأحد طرفي الصراع في عمق (الأزمة) وفي أحد جانبي الإنحياز والحرب بالتالي، ما يحول الحرب كما أسبقنا إلى حرب عالمية ثالثة.
وسيكون إنحياز بعض أطراف الصراع إلى أحد محوري الحرب أكثر من صعب، كـ تركيا؛ العضو في النيتو والساعية منذ عقود للإنضام إلى الإتحاد الأوروبي، وفي آن فإن لها مصالح كبيرة جدًا مع روسيا وإيران والمحادة جغرافياً للأخيرة، وك إسرائيل المحسوبة على أمريكا والغرب ولها جالية يهودية كبيرة في أوكرانيا ورئيسها يهودي عدا آخرين من كبار رجال الدولة الأوكرانية، لكن إنضمامها الحربي للمحور الغربي، سيجعلها في ظل نشوب حرب عالمية، في وضع خطر، حيث سيتيح لـ إيران ولسورية والمقاومات اللبنانية والفلسطينية والعراقية واليمنية، وربما غيرها فرصة شن حرب عليها، وقتها لن تقف روسيا ضد شن حرب تستهدف إسرائيل، ولن يكون من إعتبار ضاغط للجالية اليهودية في روسيا.
على صعيد عربي ليس واضحًا، إن كان ممكنا تموضع موقف عربي موحد تجاه الحرب المقبلة، لكن أبوغزاله اقترح أن تدعو الجامعة إلى اجتماع تشاوري عربي، للتداول في موقف عربي، ولكن ليس لاتخاذ قرارات، نظرًا لما هو عليه الوضع العربي، وأيًا كان الأمر، ينبغي أن تأخذ الدول، يقول أبوغزاله. جانب الحيطة في 3 أمور رئيسة من غذاء ودواء وتحوّل رقميّ (وأضيف أنا الطاقة).
وسيكون موقف الخليج واليمن، عائمًا، فالخليج سيكون وقتها تحت مرمى نار إيران والمقاومة العراقية واليمنية، إن إنحاز عسكريًا للمحور الأمريكي الإسرائيلي، فيما قد يكون لـ عُمان موقفا مختلفًا، ولن يكون لليمن موقفًا موحدًا، وفي آن لن يكون متاحًا للمحور الأمريكي دعم؛ المحور السعودي الإماراتي في حرب اليمن، فيما ستكون فرصة أمام الطرف المعادي لأمريكا لتصعيد نشاطه ضد إسرائيل والرياض وأبو ظبي والمنامة، وقد تتبدل جغرافيات المنطقة سياسيًا.
وبعامة ستشتد حروب الطاقة (نفط وغاز) وستعاني أوروبا من هذه، الحرب حتى ولو لم يشأ منتجو الطاقة (روسيا، إيران، وفنزويلا)، إستخدامها كعقوبات، لأن العمليات الحربية ستشن عن بعد على شكل طائرات وصواريخ، وقد تتعرض المصافي وخطوط النقل والبوارج والحقول النفطية والغازية لعمليات تدمير في غير مكان.. ما يفرض على الدول أخذ احتياطات مسبقة في المجالات آنفة الذكر.
وسيكون من الصعب إتخاذ قرارات ملزمة من قبل الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، أثناء الحرب، فأطراف الصراع أعضاء دائمو العضوية في المجلس، ولكن بنتيجة الحرب سيجلس أطرافها الرئيسة. تحت ضغط ويلاتها واحتمال خروج بعضهم منها!. ليضعوا أسس وقواعد وضوابط نظام سياسي عالمي جديد، يقضي على نظام الغاب الحالي وعلى هيمنة الولايات المتحدة؛ منفردة على العالم على مدى 3 عقود ونيف.
وتوقع أبوغزاله أن يصطلح النظام العالمي الجديد، قيادة عالمية متعددة الأطراف، وعقد اتفاقيّات دوليّة جديدة، تتناول أمورًا أساس، منها عولمة الإنترنت، وعولمة العملة الدّوليّة، وسياسة العقوبات الأقتصادية والمالية، ونظام عمل الأمم المتحدة، ومؤسساتها، والتلوّث المناخي، والردع الدولي في حالة تعطيل القرارات الأممية، ووضع نظام تمثيلي جديد لمجلس الأمن أكثر عدلًا، الخ.
وبعامة سيكون المستقبل بنتيجة الحرب أفضل منه الآن رغم ويلاتها، وامتداداتها على رقاع واسعة من الكرة الأرضية والدول، وبخاصة إذا شملت دولاً وشعوبًا فقيرة، لكنها ستخلص العالم من أحادية القطبية ومن طعم الحروب والانقلابات المصنّعة والفتن والإرهاب الدولي والعابر للحدود والقارات، وستكون أكثر أمنا واستقرارًا وعدلًا ومعيشة ومشاركة.
* استمدت أفكار وتفاصيل وتوقعات ومعلومات هذه المادة في أغلب مضامينها من “الرسالة المفتوحة” للمفكر طلال أبوغزاله.