إن القويّ بكلّ أرضٍ يُتّقى

" إن القويّ بكلّ أرضٍ يُتّقى"
هالة جمال سلوم
قد يكون لزاماً عليك - وأنت في القرن الحادي والعشرين - حتى تُنعت بالشخصية الحضارية والمتقدمة أن تُدخل الكثير من مصطلحات اللغة الإنجليزية إلى حديثك، حتى تكون " مودرن" و "كلاس" وذا حضور عظيم، وحتى ترتقي إلى المستوى السائد في المجتمع، حيث يكون قدر الارتقاء بقدر استبدال الكلمات العربية الفصحى بأخر إنجليزية، أو فرنسية وغيرها، فكلما تجنبت الحديث باللغة العربية، علا شأنك وزادت ثقة الآخرين بك! فتكون الحجة بأن المفردات العربية قد لا تسعف أحياناً في إيصال فكرة ما، فترى البعض يتعثر ويُتأتئ بالعربية، فيتطفل على حديثه بلغة أخرى، ذلك وبرغم ثراء مفردات اللغة العربية وكثرتها واتساع معانيها، ففيها مصطلحات جمّة لم نعرفها نحن بعد، ولم نحط من مفاهيمها خُبرا! فبات هذا – مع الأسف- معياراً للوجاهة والعلو المعرفي.
ولم يعد الأمر مقتصراً على إدخال الكلمات الإنجليزية فحسب، بل انتشرت طريقة عجيبة غريبة للتواصل، وأصبح يستخدمها الكثير ويعتمدها، خاصة بين أفراد الجيل الحديث، لغة عقيمة لا أصل لها ولا أساس ولا قاعدة! هجينة، من أب عربي وأم أعجمية، تناثرت على أعتابها العربية والإنجليزية معاً، إنها "العربيزي" كما أطلق عليها البعض، لغة تدمج الأحرف العربية والإنجليزية والرموز والأرقام معاً، لغة الحداثة، والسرعة – من منظور الجيل الحديث - تحمل في طياتها انهياراً حقيقياً في قواعد وضوابط القراءة والكتابة، فالنسبة إليهم ما هو إلا التحاقٌ بالركب لاعتناق الحضارة!
قديماً، وفي بداية استخدام الهواتف الذكيّة، لم تكن لوحة المفاتيح معربة، فكان يضطر المستخدم لاستعمال بعض الرموز والأحرف اللاتينية والأرقام لإتمام الكلمة، فمثلاً يستخدم الرقم (5) ليدل على حرف الخاء، والرقم (2) للهمزة، وهكذا، فيدمج بعض الأرقام بالحروف لإتمام الكلمة، ولكن مع تقدم التكنولوجيا، أصبحت لوحات المفاتيح معربة، وتدعم الحركات أيضاً، فلمَ البقاء والإصرار على استخدام هذه اللغة الهجينة التي باتت تهدد أسس وقواعد اللغة العربية الفصحى بين جيل الناشئة خاصة؟ أهي حضارة حقاً؟ أم سرعة في التواصل؟ أم من باب السرية بين الأصدقاء، فيصعب على طرف ثالث فهم ما يتضمن التواصل؟ أم هي تقليد أعمى ومجاراة للأصدقاء والمحيطين فحسب؟!
كم هو مخيف ومجهول حال أبنائنا في هذا الزمان، فلا القراءة ولا الكتابة أصبحت أولوية ولا ضرورة ولا حتى على الهامش، فكيف بدخول لغات غريبة إلى عالمهم؟
لقد كان وما زال للوالدين التأثير الأكبر والسبب الأول في زعزعة جذور اللغة من منطق أبنائهم، منذ بداية لفظهم وتعلمهم الحروف، فالكثير منهم يحرص ويركز على ألا يتكلم أبناؤه إلا الإنجليزية، ويفخر بذلك في المجتمع المحيط به، ويزيد كرم الوالدين لأبنائهم، بوضعهم في مدارس إنجليزية بحتة ليعزز لغته، ويطمس أثر الضاد في فكره!
ولا ننسى دخول مؤثري (السوشال ميديا) إلى عالمهم والاقتداء بتصرفاتهم وكلماتهم وألفاظهم التي لا تمت لقواعد اللغة بصلة! فتأثير هؤلاء أقوى وأدهى من تأثير أي مؤسسة ثقافية واجتماعية، ومن أي مناهج تعليمية كانت، فتهاوت الأبجدية من قاموس حياتهم.
يقول الإمام الشافعي:
" ما جَهلَ الناسُ ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس.
ويقول حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن*** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني *** ومنكم، وإن عـز الـدواء، أسـاتـي
إنها لغة الضاد، لغة الوحيين، القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، كيف لنا أن نستهين بلغة سماوية قوية متينة رصينة تتجلى فيها الفصاحة والبلاغة والصور البديعية العذبة؟ أحرفها تكتب وتخطًّ وتُزيّن وتزخرف بالحركات، وكثير من أنواع الخطوط، فتظهر كلوحة مرسومة لا مكتوبة!
قد خصنا الله سبحانه وتعالى، بلغة مرنة عصرية مواكبة لكل زمان ومكان، لغة عظيمة لخير أمة أخرجت للناس، فلنكن فخورين بها في كل المحافل والأماكن، فنحن نحظى بكنز لا ينبغي له أن ينطفئ أو يفنى، فالحضارات تكون قوية بهويتها وثقافتها ولغتها، وستبقى لغتنا هي هويتنا على مر الزمان، برغم الكائدين والحاقدين والساعين لطمسها، فلنكن أقوياء بلغتنا، فصحاء بنطقها، فالقوي بكل أرضٍ يُتّقى، ولنجاهد أنفسنا وأبنائنا على التمسك بها والالتزام بقواعدها، لنحظى بلسان عربي قويم.