الوسطية والإعتدال في فكر الدولة الأردنية وفلسفتها

الوسطية والإعتدال في فكر الدولة الأردنية وفلسفتها
م. مروان الفاعوري
الأمين العام للمنتدى العالمي للوسطية
لقد جسد عمق الموروث التاريخي الاسلامي في الاردن و الامتداد الجغرافي الطبيعي مع محيط الجوار من مكة إلى بيت المقدس وسياسة الانفتاح على ثقافات العالم المعاصر إضافة إلى العقد الاجتماعي في بنية الدستور الاردني بمحتوياته ونصوصه جذور وعناصر فهم أساسي لفكر الدولة الاردنية منذ التأسيس حيث اعتمد الملك عبدالله الأول على ثلة من العلماء من مختلف البلاد العربية والاسلامية ممن اتصفوا بالاعتدال وساهموا في وضع التشريعات والقوانين الوسطية فكان التعليم وسطيا والتشريعات وسطية والتدين وسطي والادارة وسطية والدولة وسطية - فهذه العناصر هي العامل المنظم والعقل المرشد والمرجع الموجه في نهج وتنفيذ الرؤى تجاه قضايا المجتمع وحماية مصالح الدولة الاردنية الداخلية والخارجية ، وفكر الدولة الاردنية يقوم على تنفيذ هذه النصوص والمحتوى في العمل والخطاب السياسي والاقتصادي والثقافي والديني والاجتماعي متكئا على الإرث الهاشمي في تبني نهج الوسطية والاعتدال في الحكم وإدارة المشهد العام من خلال تحويل هذه العناصر إلى سياسات وبرامج عمل ونهج ثابت للدولة ، لقد صهر الدستور مكونات الشعب الاردني المختلفة والمتنوعة دينيا وإثنيا ولغويا إلى أُسرة واحدة موحدة، ومن خلال نهج الاعتدال الثابت وغير المتحرك في فكر الدولة الاردنية ، فمنذ التأسيس التزم الحكم في الاردن بثابت العدالة وضرورة الحفاظ على القيم الروحية والعبادات كثابت من ثوابت فكر الدولة السياسي، حيث يؤكد الدستور الاردني أن دين الدولة الاسلام، فإذا كان الاسلام هو الثابت الاول فإن نهج الوسطية والاعتدال هو الثابت الثاني الذي مهد بدوره لالتزام الدولة بنظرية التنمية والبناء لا الثورة والصدمة في إحداث التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي وهكذا كانت عملية التغيير التي رعتها وشجعتها الدولة تتم بيسر دون إكراه، بل وبالذات من خلال المؤسسة التعليمية ومن خلال القدوة الحسنة.
لقد لعب الجيش العربي الاردني منذ تأسيسه دوراً مهماً في عملية التغيير من خلال تعميق القيم الدينية الوسطية في كافة وحداته من خلال الأئمة والخطباء المنتشرين في كافة وحداته العسكرية مما جعل الاردن حالة مميزة في الإقليم - المضطرب سياسياً - من حيث الإستقرار والعيش المشترك ومساحة الحريات العامة في التعبير وممارسة العبادة وحماية دورها فالتوازن والإعتدال والعدل والمساواة ونشر قيم التسامح وإشاعة روح العدالة الاجتماعية تجلى بشكل واضح في فكر الدولة الاردنية منذ التأسيس وعبر مسيرتها التاريخية الطويلة وحتى الآن، فقد حافظ فكر الدولة على القيم العربية والاسلامية وتطوير مفهوم الأسرة إلى الأسرة الكبيرة من خلال مخاطبة ملوك الاردن الشعب الاردني بأُسرتي الأردنية، من هنا فالوسطية والاعتدال في القول والنهج والخطاب السياسي تجلى في المواقف الداخلية والخارجية، مما أكسب الأردن مكانة اقليمياً ودولياً في المشهد الحضاري والإنساني – فهذا المثلث القائم على الاعتدال والعيش المشترك والتعددية - سياسة صلبة في عقيدة أُسرة آل البيت الحاكمة منذ حكم الملك عبدالله الأول المؤسس إلى عهد الملك عبدالله الثاني المعزز .
لقد جسدت المبادرات التي صدرت من داخل عقل الدولة الفكري والسياسي الاردني الاخيرة قيمة وإضافة نوعية وتأصيلية لفكر الدولة المعتدلة والمتوازنة في الخطاب الوطني والعمل الدولي، فمن رسالة عمان إلى أسبوع الوئام إلى كلمة سواء وقبلها حوار اتباع الديانات، هذه المبادرات تبرز بلا أدنى شك أن الإعتدال والوسطية هو نهج ثابت من ثوابت الدولة الاردنية وفكرها المستنير، والذي يتماشى و يتوافق مع مزاج الشعب الاردني الموسوم بالاعتدال والوسطية .
لقد لعب هذا الثابت أدواراً مهمة ومفصلية - في إبراز صورة الاسلام الحقيقية وتصدى لجميع الهجمات والتجنيات ضد المسلمين، وجسد هذا النهج خيرية الاسلام هذا الدين العظيم الذي جاء رحمة للعالمين ، بآليات ووسائل العصر الحديث في الممارسة والخطاب الرسمي والشعبي في الداخل والخارج إذ سعت الدولة الاردنية منذ النشأة الاولى إلى تعميق مفهوم الاعتدال في بنية المجتمع الاردني فكرا وسلوكا وممارسة من خلال بث روح التسامح في المجتمع ورفض التطرف بكافة أشكاله ومسمياته، وأبرز صورة الاسلام المعتدل على المنابر الدولية وفي المؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية، وفي الخطاب الدبلوماسي والسياسي الاردني العلني في هيئة الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي وغيرها من المحافل واللقاءات الدولية، لهذا فإن الإيمان بالله واحترام القيم الروحية والتمسك بالمثل العليا والتسليم بحق كل إنسان في الحياة الكريمة هي منطلقات أصيلة وأساسية وإنسانية في فكر الدولة الاردنية – فالاردنيون رجالا ونساء أمام القانون سواء لاتمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين وهم يمارسون حقوقهم الدستورية وملتزمون بمصلحة الوطن العليا وجميع دول العالم و المنظمات والمؤسسات العالمية الهامة تشهد بأن الأردن يتميز بين جواره العربي بالوئام الديني الذي نراه واضحا في سياسة الدولة الأردنية تجاه أصحاب الديانات الأخرى وخاصة الأخوة المسيحيين، فكل أبناء الوطن وفق نصوص الدستور متساوون في الحقوق والواجبات، وفي هذا ترجمة لسياسات آل هاشم منذ تأسيس الدولة الأردنية.
فالوسطية والاعتدال هما سياسة متبعة في التعامل مع مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية .
إن قصة النجاح الأردنية في التعايش الديني التي أغناها الهاشميون هي نتاج نهج الإعتدال في فكر الدولة الاردنية التي يجب أن يعرفها العالم بأسره ويجب أن يكون هذا النهج ذا ديمومة واستمرارية في كافة مناحي الحياة وان يتم نشر إضاءات الاردن في أصقاع العالم و إلى أن فهم العالم الغربي للاسلام وفي هذا الوقت بالذات يحتاج إلى مفكرين مستنيرين يرون الانسانية أسلوب تعامل وسمو أخلاق وبعداً عن التطرف والتعصب واحترام حرية الاديان.
إن الاردن يحتضن النهر المقدس الذي عمد فيه السيد المسيح والدولة الاردنية المسلمة احتضنت هذا النهر ورعته ورعت الأماكن المقدسة فيه كالمغطس الذي يحج إليه المسيحيون من كل اصقاع الدنيا في جو من الألفة واحترام حرية ممارسة المسيحيين لطقوسهم الدينية على أرض غالبية أهلها من المسلمين، ومع قرب دخول الدولة الأردنية مئويتها الثانية، تركز الدولة في مشروعها الثقافي القادم على بناء معارف الشباب الأردني من خلال تراث الفلسفة الانسانية، وانتاجها المعاصر من مختلف المدارس، لتزويدهم بالمفاهيم الاساسية، وتطوير قدراتهم، إضافة إلى جملة من الأهداف التي تسعى إلى تعزيز قدرة الشباب على استلهام فكر و قيم الدولة الأردنية المعاصرة المتمثلة في الاستمرارية والوسطية والاعتدال والتوازن الاجتماعي واحترام التنوع الثقافي وغيرها، وتعزيز قدراتهم على فهم الاختلاف واحترامه، وخلق التوافق بين الافراد والجماعات، وتطوير قدرات الشباب على التفكير المستقل القائم على التحليل والتفسير والنقد، واستخدام أدوات وأساليب التفكير الناقد في حياته اليومية، وتأهيل وعيهم لمواجهة المشكلات المعاصرة مثل العنف والتطرف والهروب والاغتراب الثقافي .
إن حكمة الدولة الاردنية وانحياز مواقفها للثوابت الوطنية ومصالح الأمة العليا يوفر للاردن حاضنة عربية وإسلامية وتحالف حقيقي على المستوى الدولي، فنهج الوسطية والاعتدال المستند إلى مبادئ الدولة الأردنية والمستمد من ديننا الحنيف مكن الأردن من لعب دور هام بين دول العالم. إذ كان من نتائجها أن حصد الأردن العديد من الجوائز الدولية والعالمية و أبرزت موقع الاردن الانساني والحضاري في المشهد الدولي كما أن تبني المبادرات الاردنية من قبل هيئة الامم المتحدة دليل قاطع وبرهان ساطع أن فكر الدولة الاردنية مجذر ومؤصل على مبادىء نهج الاعتدال والوسطية في الممارسة والسلوك والخطاب الرسمي والشعبي في الداخل والخارج، والذي يعد انعكاساً حتمياً لفكر الدولة وثوابتها الوطنية والقومية والانسانية.
إن العالم في هذه الايام بحاجة ماسة إلى نهج الوسطية والاعتدال خاصة في ظل بروز اليمين المتطرف، وكذلك تيارات العلمانية الالحادية في الغرب وكذلك بروز الانجيلية المتصهينة التي تحكم العالم وتعمل على معادة الاسلام وتدعو إلى صراع الحضارات ونهاية التاريخ وتصادم قيم العيش المشترك وتدعو إلى ازدراء الاديان والإساءة الى الرسول محمد عليه افضل الصلاة والسلام بحجج حرية التعبير. وقد ظهر فشل تيارات التطرف في جائحة كورونا حيث تأكد أن قيم حقوق الانسان وقيم المرحمة هي خيار الإنسانية والعالم الوحيد نحو تجديد مفاهيمه القيمية والإنسانية والأخلاقية فتيار الوسطية وقيمه من الرحمة والتسامح والإعتدال هي مستقبل البشرية جمعاء، فمن رغب في ذلك فليحجز له مقعداً في قطار تيار الاعتدال العالمي العريض وبخلاف ذلك فان مصير البشرية سيبقى في ايدي تجار الحروب والفتن والمحن .
وختاماً نقول إن منهج الوسطية والإعتدال رسالة الدولة الأردنية لدول الإقليم والعالم حتى يرى العالم أجمع أن الأردن معني بالإنسان؛ فرداً وأسرة ومجتمعاً، مثلما هو معني بإحترام دينه وفكره وثقافته وحريته، حتى يبدع وينجز ويحقق حضوره الإنساني الذي يريد.