جيش الاحتلال يعاني من هشاشة نفسية قبيل دخول غزة برًا
كان الجندي الإسرائيلي إيال يبلغ من العمر نحو 26 عاما حينما دخل إلى قطاع غزة لأول مرة عام 2014، بصفته خبيرَ متفجرات عسكريا أُرسل للمساعدة في تفكيك الأنفاق التي حفرتها المقاومة، لإخفاء مقاتليها والتسلل إلى الأراضي المحتلة. بعد تسع سنوات من هذه المهمة التي كُلِّف بها إيال سابقا، يستعد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لإعادته وزملائه مرة أخرى إلى غزة ضمن الهجوم البري الذي تُجهز له إسرائيل حاليا، وتتضمن أهدافه المُعلنة القضاء على حركة حماس نهائيا.
من خبرته السابقة، يعرف إيال جيدا ما ينتظره ورفاقه. خلال تصريحات صحافية لـ"فاينانشال تايمز"، يقول إيال عن دخول غزة: "هذا الأمر كابوس.. لكنه كابوس حقيقي". يوضح إيال سبب ذلك قائلا: "عليك أن تتحرك ببطء. في بعض الأحيان، يتحرك الطرف الآخر بشكل أسرع مما يمكنك الرد عليه. الشيء الوحيد الذي يُبقيك على قيد الحياة هو تدريبك".
إيال وزملاؤه ليسوا آلات أو أسلحة أو صواريخ وقنابل ستُوجَّه للأراضي الفلسطينية المحتلة لقتل المدنيين بضغطة زر، ولكنهم بشر، يحملون أفكارا ومشاعر وهواجس ومخاوف والعديد من نقاط الضعف، التي كوّنتها بشكل أساسي تركيباتهم النفسية وخبراتهم السابقة، وحين تحتدم المواجهات المباشرة يكون لهذه العوامل تأثيرات كثيرا ما تفوق تأثير التدريبات والتقنيات المتطورة (1).
تناولت دراسة صدرت عام 1987 ونُشرت على الإنترنت عام 2009 وحملت عنوان "التعرض للإجهاد القتالي المتكرر: تفاعل كرب القتال بين الجنود الإسرائيليين خلال حرب لبنان (1982)" التداعيات النفسية لحالة الاستنفار القتالي المستمر لجنود الاحتلال، من خلال دراسة حالة عصبية بعينها تصيب الجنود تُعرف باسم "تفاعل كرب القتال" (Combat stress reaction). شملت الدراسة نحو 382 جنديا، مع مجموعة مراقبة من الجنود الذين قاتلوا في الوحدات نفسها ولكن لم تظهر عليهم أعراض كرب القتال ويبلغ عددهم 334 جنديا.
تبيَّن من الدراسة أن المعاناة من كرب القتال في حرب لبنان كانت مرتبطة بالأزمات النفسية التي عاشها الجندي الإسرائيلي في الحروب السابقة. فقد كان معدل الإصابة بكرب القتال في حرب لبنان أعلى لدى الجنود الذين عانوا من الأزمة ذاتها في حروب سابقة مقارنة بالجنود الذين ليس لديهم خبرة قتالية سابقة (2).
يُعرف "تفاعل كرب القتال" في أغلب الأحيان ببعض الأسماء الأخرى مثل "صدمة القذيفة" أو "إرهاق المعركة". وغالبا ما يعاني الجندي المُصاب بهذه الحالة من مجموعة من المشاعر السلبية نتيجة التعرض للضغط الناتج عن المعركة. من الأعراض الرئيسية لكرب القتال: الشعور بالإحباط، والتقلبات المزاجية الحادة، والخوف والقلق، بالإضافة إلى المُعاناة من مشاعر الحزن واليأس. كذلك قد يُعاني الجندي المُصاب بهذه الحالة من الكوابيس ومطاردة الذكريات الماضية المؤلمة له دائما. هذا بالإضافة إلى أفكار وسواسية حول الحدث أو الأحداث المجهدة التي تعرض لها الجندي، وزيادة التفكير في الموت ولحظات الاحتضار. بخلاف التسرع في اتخاذ القرارات أو حتى إظهار عدم القدرة على الحكم واتخاذ القرار من الأساس (3).
من ناحية أخرى، قد يتحول تفاعل كرب القتال إلى اضطراب ما بعد الصدمة. بحثت دراسة نُشرت عام 1994 نسب الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) لدى المحاربين القدامى الإسرائيليين في حرب عام 1973. أكدت نتائج الدراسة أن نسبا صغيرة ولكنها معتبرة من أسرى الحرب والمحاربين القدامى في دولة الاحتلال ما زالوا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة بعد ما يقرب من عقدين من الحرب (4)، فما بالك بالجنود الذين خاضوا قتالا في عام 2014، ويُطلب منهم الآن بعد مرور 9 أعوام خوض قتال جديد.
معركة الكرامة
الحالة النفسية السيئة وانخفاض الروح المعنوية ليست أمورا هامشية فيما يتعلق بالقتال وخوض الحروب المباشرة التي تعتمد على الجنود من البشر وليس على الآلات والصواريخ، كان هذا الأمر مثلا سببا جوهريا من أسباب هزيمة إسرائيل عام 1968 في معركة الكرامة.
دارت معركة الكرامة في شهر مارس/آذار من عام 1968، أي بعد أقل من عام من حرب عام 1967. وقعت المعركة على الأراضي الأردنية بين جيش الاحتلال الإسرائيلي من جهة والجيش الأردني والفصائل الفلسطينية من جهة أخرى، واستمرت نحو 15 ساعة، وانتصر خلالها الطرف العربي (5).
بحثت ورقة بحثية نُشرت عام 2013 الجوانب النفسية الإسرائيلية في معركة الكرامة 1968. استخدم جيش الاحتلال العمليات التكتيكية النفسية قبل وأثناء وبعد المعركة لمساندة العمليات العسكرية وتدمير معنويات المقاتلين والمدنيين العرب (6). لكن وفقا للورقة البحثية، فإن ما حدث هو العكس تماما، حيث كان لارتفاع الروح المعنوية والصمود والجاهزية ووحدة المقاتلين لدى الجانب العربي، وتدني الروح المعنوية لدى قادة وضباط وجنود إسرائيل، أثر كبير في تحديد نتائج المعركة.
خلال تصريحات سابقة، قال الدبلوماسي الإسرائيلي السابق آلون ليال، وهو أحد جنود تلك المعركة، إن المعركة صُورت للجنود الإسرائيليين على أنها "نزهة" وأن الجيش الأردني لن يقاتل (5). لكن على أرض المعركة، كان الواقع عكس ذلك، وجد جيش الاحتلال نفسه يتكبد خلال المعركة خسائر بشرية فادحة كانت سببا في زعزعة ثقته وتأثُّر حالته المعنوية سلبيا، وهو ما كان أحد الأسباب الرئيسية للهزيمة الإسرائيلية. أوضحت الورقة البحثية أنه خلال هذه المعركة هُزم الجيش الإسرائيلي عسكريا ونفسيا على يد مجموعة عسكرية صغيرة وغير مُجهزة جيدا (6).
التدريب قد لا يُجدي نفعا
في ضوء ذلك، فإن التدريب الذي يستند إليه أيال وقادة الاحتلال من فوقه قد لا يكون فعّالا تماما في ظل تعقيدات المعارك البرية في المناطق الحضرية. لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود أولمرت خبرة سابقة مع الهجوم البري، فقد أرسل أولمرت قوات برية إلى غزة في ديسمبر/كانون الأول من عام 2008، حيث بدأ الاحتلال الإسرائيلي حينها عدوانه العسكري المعروف بعملية "الرصاص المصبوب"، وهي العملية التي استمرت لنحو ثلاثة أسابيع.
بناء على هذه الخبرة السابقة، يوضح أولمرت أن ما ينتظر الجنود الإسرائيليين الآن هو "كل ما يمكنك تخيله وما هو أسوأ". ويُضيف قائلا: "لن يكون الأمر بسيطا ولن يكون ممتعا" (1). ويُضيف خلال تصريح آخر: "سيتعين على الجنود اتخاذ قرارات في ثوانٍ أو حتى أجزاء من الثانية. وهم في النهاية بشر يقعون تحت ضغط ويرتكبون أخطاء. ولن يمكن تجنب حدوث الأخطاء" (7).
استعانت دولة الاحتلال خلال الفترة الماضية ببعض أحدث تقنيات التدريب على حرب المدن في العالم استعدادا لمثل هذا الصراع، حيث يتدرب الجيش الإسرائيلي على حرب المدن منذ عقدين من الزمن في مدينة صناعية تبعد ساعة واحدة بالسيارة عن قطاع غزة، وهي منشأة تبلغ مساحتها 5000 فدان، بُنيت عام 2005 لتبدو وكأنها مدينة شرق أوسطية نموذجية، حيث تضم 600 مبنى، موزعة حول شوارع ضيقة (7).
إحدى التقنيات العسكرية التي تدرب عليها الجنود هي دخول المباني عن طريق اختراق الجدران الجانبية لتجنب الأبواب المفخخة. وبمجرد دخولهم، يقوم الجنود بتفجير الجدران الداخلية لتجنب أي نيران قناصة على السلالم أو المساحات المفتوحة في الشارع. هناك تكتيك آخر تدرب عليه الجنود الإسرائيليون يتمثل في استخدام الجرافات المدرعة التي يبلغ ارتفاعها ثلاثة طوابق لتمهيد الطريق أمام الوحدات التي تقاتل على الأرض (1).
هذا النوع من التدريب لا يمكن إلا أن يكون مجرد تقريب لما قد تواجهه إسرائيل في شمال غزة، كما يقول الخبير الأمني الألماني، ورئيس مركز الأمن والدفاع في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية، كريستيان مولينغ، لموقع دويتشه فيله. ويُضيف قائلا: "يمكنك التدريب على كل ما تريد، لكن هذا لا يعني أنه يمكنك استبعاد الخسائر بشكل كامل سواء من جانبك أو من الجانب الآخر" (7).
في الواقع هذه الاستعدادات والتدريبات على التقنيات العسكرية قد لا تُجدي نفعا على الإطلاق، إذا استعرنا تعبير أيال الذي يؤكد: "في بعض الأحيان يتحرك الطرف الآخر بشكل أسرع مما يمكنك الرد عليه"، هنا يفقد الجندي الإسرائيلي قدرته على التنبؤ الذي يُمكِّنه من المواجهة والرد السريع والاستفادة من تدريبه. عندما تغيب القدرة على التنبؤ تصبح أنت والمجهول وجها لوجه، وهنا رُبما يتضاءل مقدار أهمية التدريب على التقنيات العسكرية والقتالية الحديثة