كثيرون من الناجين لا نعرفهم، اكتشفوا ضالتهم بالتعافي من كورونا، وآخرون حصد الفيروس أرواحهم دون رحمة.
لا منطق طبيّ يمكن أن يُنقذ أرواح البشر، جهود جبارة في سبيل النجاة، الكمّامة، التباعد، الحظر، اللقاح.
ولكن…
كورونا استوطن جسد ماهدة الآغا، امرأة في العقد الخامس، فوق سرير في المستشفى، راقدة في قسم المصابين بڤيروس كورونا. بينها وبين ضياء ابنها الأصغر نافذة زجاجية عريضة ونظرات من عينيّ الأم المسجاة فوق السرير تهمس بعينين حزينتين لابنها : لا تحزن.. لا تخاف..
سافر كلاهما لتركيا، ماهدة وابنها الأصغر ضياء، لإكمال تعليمه في إحدى الجامعات، في المطار اكتشفت الأم أنها مصابة بالفيروس، أجبرت على الإقامة في المستشفى، لم يتوقع ضياء أن الرحلة نحو المستقبل ستتحوّل فجأة إلى رحلة حزينة من نوع آخر، ستكون الخسارة فيها روح أمه.
كانت ماهدة معلمة لغة عربية أمٌ قويّة ومؤمنة، قاومت المرض، ومن عمق أعماقها لم تستسلم، ظلت روحها قوية، وابتسامتها حاضرة، تقتل أي ضعفٍ يمكن أن يتسلًل في روحها مدة أسبوعين. ثم أصابتها غيبوبة مدة 54 يوماً.
استيقظت على أثرها في مستشفى بعيد في تركيا، اللحظة الأولى حين استفاقت من الغيبوبة، كان صوت زوجها أول صوت سمعته، ووجه ضياء أولّ وجه رأته.
لكن الفيروس كان قد فتك بجسدها وجعلها خائرة فاقدة القدرة على الحركة والتحدّث أحيانا.
لم يُسمح لماهدة مغادرة تركيا؛ نظرا لسوء حالتها وتدهورها. كان وضعها المرضيّ حسّاسا وخطيراً. والأطباء في حالة ترقبّ مستمّر لحالتها.
تسأل من حين لآخر عن أبنها الأكبر وعن ابنتها ترنيم وعن حفيدها إن جاء إلى الحياة أم ما يزال في رحم أمه.
تحسّنت حالة ماهدة شيئا فشيئا، فقد كان للأثر النفسي والدعاء المتواصل دورٌ في ذلك. فحضور زوجها ورعايته واهتمامه كانت له آثار إيجابية عزّزت مقاومة جسدها في صراعه ضد الكورونا، حيث كانت تخطط للرجوع إلى منزلها قبل ساعات من مغادرة روحها الحياة، إثر مضاعفات تحدث للمتعافين من كورونا بشكل مفاجىء.
كان الزوج يزرع في روح زوجته أملا كبيرا في العودة إلى بيتها مجدّدا. واستئناف الحياة مجدّدا. بات الموت الوشيك في عينيه يرحل بعيدا. هكذا بدا لوهلة.
صعدت روح ماهدة إلى بارئها. وسط صراخ الأب وذهول ابنها الأصغر وضياعه. باغتهم الموت ساخرا من كلّ أملٍ ممكن.
استيقظي، لقد حجزنا في طائرة هذا المساء. توّسل الابن لأمه. ولكن فوق سريرها الأبيض، كان نبض القلب ضعيفا، لا إشارة للحياة إلا عينيها اللتين كانتا تحدّقان في وجه ضياء وتلّوحان بالوداع الأخير .
وبين دقائق الصمت الأخيرة، اللحظات التي حملتهم جميعا إلى المجهول، جاءهم صوت عبر الهاتف يخبرهم
بالسماح لهم جميعاً بمغادرة تركيا في رحلة الطائرة مساءً، لأن نتيجة فحص الكورونا للمريضة ماهدة ولهم جميعا سلبيّة.
رحلت إلى عالم الآخرة، ولكن الفيروس لم يرحل إلا بعد أن دمًر رئتيها وطاقة الحياة في جسدها ، لقد دمّرها دمارا لم تقوَ بعده على التنفس والحياة.
هكذا صنع هذا الفيروس مفارقات محزنة ومأساويّة في حياة ماهدة. الذي يحسبها زوجها وذويها عند الله شهيدة غربة ووباء بإذن الله.
دُفنت الفقيدة في تُركيا، فقد كانت العائلة مجبرة على ذلك، أنظارهم للأمام وقلوبهم للخلف. عادوا في ذات الطائرة التي كان من المقرر أن تحملهم جميعًا، حملت أجسادهم وتركت أرواحهم معلقة حيث تكون ماهدة.
الفقيدة سجلت هذا الفيديو قبل ساعات من وفاتها لتشاركه مع الجميع: