الدكتور محمد ابو حمور يكتب : إدارة الأزمة..... التبعات الاقتصادية
استطاعت الدولة الاردنية حتى الان ان تدير الأزمة المتعلقة بالجانب الصحي لوباء كورونا بحرفية عالية وكفاءة قل نظيرها، وبرز واضحاً ذلك التكامل في جهود مختلف المؤسسات الرسمية المدنية منها والعسكرية، كما شكل التزام المواطنين رديفاً اساسياً للنجاح، ولا شك بان الاجراءات المتخذة والهادفة اساساً للحفاظ على حياة المواطنين كأولوية، كان لها انعكاسات مباشرة ومؤثرة على مختلف القطاعات الاقتصادية، وهذا سينعكس حكماً على حياة المواطنين وسوف يتواصل ظهور اثاره خلال الفترة القصيرة القادمة.
والاردن بهذا الخصوص لا يشكل استثناءً، فالاثار الاقتصادية باتت واضحة ومؤثرة على مختلف الاقتصادات العالمية المتقدمة منها والنامية، وتشير الكثير من التوقعات الى احتمالية متزايدة لمعاناة الاقتصاد العالمي من ركود طويل الاجل، يطال قطاعات اقتصادية متعددة ويعصف بالاسواق المالية العالمية ويؤثر على العلاقات التجارية بين الدول، خاصة وأن الركود المتوقع سيكون مختلفاً، فهو يطال مختلف بلدان العالم في نفس الوقت تقريباً كما يؤثر على جانبي العرض والطلب في اُن معاً، مما حدا ببعض الاقتصاديين الى التشكيك في فعالية الاجراءات التي تتخذها حكومات الدول المختلفة باعتبار ان الازمة الحالية مختلفة ولا يمكن التعامل معها ومواجهتها بنفس الاساليب التي استخدمت خلال الازمات السابقة والتي تتمحور بشكل اساسي على توفير سيولة اضافية وتخفيض اسعار الفائدة التي وصلت الى ما يقارب الصفر أضافة الى دعم الفئات الاجتماعية التي تشتد معاناتها في ظل هذه الظروف.
ونحن هنا لسنا بصدد الحديث حول الأثر الاقتصادي لهذه الازمة على المستوى العالمي ولا حتى الاقليمي، خاصة وان معظم المحللين الاقتصاديين متفقون على ان فيروس كورونا لم يظهر كل ما في جعبته حتى الان، اضافة الى ان المدى الزمني للأزمة لا زال ضمن المعطيات التي لا يمكن التنبؤ بها، لذلك سيقتصر بحثنا على الاوضاع في المملكة الاردنية الهاشمية وبحدود ما يمكن التبؤ به حتى الان، وما يمكن اقتراحه من سياسات مرحلية ومستقلبة لمواجهة الاثار الاقتصادية الانية وتلك التي يمكن ان تظهر في مراحل لاحقة، الهدف من ذلك محاولة تقليص الاثار السلبية الى أدنى حد ممكن مع الاحتفاظ بالقدرة على تمكين الاقتصاد الوطني من النهوض مجدداً واستعادة عافيته خلال المراحل القادمة.
كما أسلفنا فقد وضعت الدولة الاردنية صحة الانسان وسلامته على رأس أولوياتها، ولا يوجد من يشكك بصحة هذه الاولوية مع تفهم وتقدير الاجراءات التي تم اتخاذها بما في ذلك سياسة التباعد الاجتماعي واغلاق المؤسسات وحظر التنقلات، ومن المفهوم أن هناك كلفة اقتصادية تترتب على هذه الاجراءات، وظهر ذلك جلياً على قطاعات اقتصادية متعددة، فالتجارة، باستثناء المواد التموينية والصيدلانية، وقطاع الزراعة والقطاعات التصديرية وقطاع النقل وقطاع السياحة بمختلف مكوناته بما في ذلك الفنادق والمطاعم وخطوط الطيران ومكاتب السياحة والعديد من الصناعات التحويلية والاستخراجية وقطاع البناء والحرفيين والاعمال الصغيرة والمتوسطة وغيرها من القطاعات عانت بشدة من هذه الظروف الطارئة والمرتبطة ليس فقط بالظروف المحلية وانما بالاقتصادات الاخرى ايضاً.
بمعنى اخر فنحن نلاحظ ان قطاعات الاقتصاد الوطني كلها تقريباً دفعت ثمناً باهظاً ومن غير المؤكد فيما اذا كانت سوف تستطيع التأقلم مع هذه الظروف لفترة أطول، فمن المتوقع ان كثير من الشركات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة لن تكون قادرة على الاستمرار في تأمين نفقاتها التشغيلية وخاصة رواتب الموظفين أضف لذلك معاناة الحرفيين والعاملين في القطاع غير الرسمي. ولكي ندرك حجم الازمة وضغوطاتها المختلفة لا بد ان نستذكر بان اقتصادنا كان يعاني اصلاً العديد من المصاعب قبل ظهور الوباء، سواءً ما يتعلق بارتفاع نسب البطالة التي تزيد على 19،% ومعدلات النمو الاقتصادي المتواضعه وغيرها، وفي حال طال أمد الازمة فليس من المستبعد ان نشهد نمواً سالباً في نهاية هذا العام، فمن المتوقع ان هناك خسائر يتكبدها الاقتصاد الوطني تبلغ حوالي نصف مليار دينار شهرياً.
ولدى عرض المصاعب والانعكاسات السلبية التي سيعاني منها الاقتصاد الاردني جراء هذه الازمة لا بد لنا ان ندرك اثارها على المالية العامة، فقد اصبح واضحاً ان تحقيق افتراضات الموازنة العامة فيما يتعلق بجانب الايرادات أصبحت بعيدة المنال ما يعني مزيداً من العجز خاصة في ظل الانفاق الطاريء المطلوب لمواجهة تبعات انتشار الوباء على مختلف الصعد الصحية منها والاجتماعية.
وقد يعتقد البعض ان انخفاض أسعار النفط الذي شهدناه مؤخراً ستكون له اثار ايجابية على الاقتصاد الوطني، ولكن الواقع يؤكد بان هذه الامال تشوبها الكثير من المحاذير، فمثلاً صحيح ان حصة الحكومة من الضرائب لا تنقص بسبب فرض ضريبة مقطوعة على المشتقات النفطية، الا ان النقص سيأتي من انخفاض الاستهلاك،هذا من جانب، ومن جانب اخر فالضريبة المقطوعة لا تتيح للقطاع الخاص الاستفادة من القيمة الحقيقة لحجم الانخفاض في اسعار النفط، وبذلك ستكون المنتجات أقل قدرة على المنافسة مقارنة بمنتجات دول أخرى، كما ان الانخفاض الحالي في أسعار النفط قد يؤثر علينا سلباً بشكل غير مباشر وذلك من خلال تقلص القدرة الشرائية لأسواقنا التصديرية، والأثر المتوقع على تحويلات العاملين الاردنيين في الدول الشقيقة، كما قد يؤثر على ما تقدمه هذه الدول من منح ومساعدات للمملكة.
بادرت الحكومة الاردنية لاتخاذ عدد من الاجراءات النقدية والمالية بهدف تقليص الانعكاسات السلبية لوباء كورونا على الاقتصاد الوطني، وقد كان البنك المركزي سباقاً في اتخاذ مجموعة من الاجراءات الهادفة الى توفير السيولة اللازمة لاستدامة قطاع الاعمال بما في ذلك تخفيض نسب الاحتياطيات الالزامية وتخفيض نسب الفائدة وتوفير مصادر تمويل اضافية للشركات الصغيرة والمتوسطة، ويلعب القطاع المصرفي دوراً اساسياً في تجسيد اجراءات البنك المركزي على ارض الواقع وذلك من خلال أعادة الجدولة للقروض أو تأجيل سداد بعض الاقساط وتسهيل حصول الافراد والشركات خاصة الصغيرة منها والمتوسطة على تسهيلات ائتمانية بنسب فوائد منخفضة وبشروط ميسرة، كل ذلك يشكل قاعدة للحفاظ على التوازنات الاقتصادية ومنع انهيار المؤسسات والشركات التي تعاني ظروفاً صعبة.
كما ان قيام الحكومة بتأجيل تحصيل بعض الضرائب واشتراكات الضمان الاجتماعي تساهم ايضاً في تعزيز المراكز المالية للمنشات الاقتصادية.
وفي نفس الاطار من الضروري الاشارة لجهود الجهات التي تدعم الاسر الفقيرة والمستفيدة من صندوق المعونة الوطنية أو تلك التي تم ادراجها ادراجها ضمن برامج المساعدات الطارئة نتيجة للظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، وبهذا الخصوص يمكن الاشارة ايضاً للتبرعات التي تقدمها الشخصيات والمؤسسات الوطنية لدعم هذه الجهود.
وقد يكون من المناسب واضافة لما ستقوم بتقديمه المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي ان تفكر الحكومة بالتبرع بمخصصات التنقلات الشهرية وبدل الاقتناء التي كانت مخصصة للموظفين الذين تم منحهم عطلة رسمية لفترة تقارب الشهر حتى الان، ومن باب أظهار وتكريس التكافل الاجتماعي بين مختلف فئات المواطنين، يمكن ايضاً التبرع بنسب مدروسة من رواتب موظفي القطاع العام غير الملتحقين بمراكز عملهم تخصص لدعم عمال المياومة والحرفيين والفئات الاخرى التي فقدت مصدر دخلها خلال الازمة، ولكن وفي كل الاحوال لا بد من توفير شروط واجراءات شفافية حول الدعم وكيفية توجيهه، وقد تجد الحكومة نفسها مضطرة خلال الفترة الحالية للتخلي عن سياسة التحفظ تجاه الدين العام، وهنا يمكن التفكير بما يمكن توفيره من تمويل فوائد منخفضة عبر الجهات الدولية وعبر الصناديق التمويلية أو اللجوء الى طلب الدعم والمساندة من الدول الصديقة والشقيقة.
لا شك بان الاجراءات العاجلة التي تم اتخاذها تمثل رسالة واضحة بان الدولة جادة في تحمل مسؤولياتها وانها معنية بالحفاظ على سلامة الاوضاع الاقتصادية وبتقليص الاثار السلبية على حياة المواطنين، ولكن قد يتساءل البعض هل تكفي هذه الاجراءات لمواجهة الظروف المستجدة وهل هناك امكانية لتوسيعها وتعميقها وما الذي سوف يترتب على ذلك مستقبلاً في حال استمرت الظروف الحالية لفترة أطول.
وهنا من المفيد ان نؤكد باننا نمر بظروف استثنائية ولا بد من تضافر الجهود لنستطيع تجاوز هذه المرحلة، بمعنى ان المسؤولية لا تقع على كاهل الحكومة فقط بل لا بد ان تقوم مختلف القطاعات المجتمعية بدورها، بما في ذلك المواطن والقطاع الخاص والتكامل بين جهود مختلف القطاعات هو السبيل لتجاوز هذه الازمة، فلا بد ان يتشارك المجتمع بكافة فئاته في تحمل جزء من الاعباء المترتبة على هذه الازمة.
ومن الضروري التفكير ومنذ الان في كيفية اعادة عجلة الانتاج لقطاعات تصديرية اخرى أضافة الى الصناعات الدوائية فمثلاً بعض الصناعات الاستخراجية كالبوتاس والفوسفات لديها مراكز انتاجية بعيدة عن الاكتظاظ السكاني ويمكنها العمل في هذه المراكز خاصة وان لديها اسكانات خاصة في تلك المواقع بل وحتى يمكن استغلال بعض الفنادق القريبة للحفاظ على سلامة العمال، اضافة لذلك يمكن اعداد خطط وترتيبات محددة يتفق عليها مع القطاع الخاص لاعادة العمل في بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية وخاصة قطاعي الزراعة والصناعة، بمعنى اتخاذ اجراءات لتنشيط القطاعات الاقتصادية المختلفة تتفق مع المتطلبات والشروط الصحية، هذا بالإضافة إلى إصدار أمر الدفاع بدفع أرباح الشركات التي اقترحت مجالس إدارتها توزيعها على المساهمين فورا لتلبية احتياجاتهم بهدف توفير السيولة لمالكي الأسهم.
وبجانب ما اتخذته الحكومة أو ما ستتخذه من اجراءات في المدى المنظور لا بد من التفكير باجراءات وخطوات هيكلية خلال الفترات الزمنية القادمة، تشمل العمل على تخفيض الانفاق العام وتحديد أولوياته بشكل متوازن وتحفيز القطاع الخاص والعمل جدياً لتحقيق تنمية اقتصادية موجهة نحو الانسان بالدرجة الاولى، حيث ان أهم العبر التي يمكن ان نستخلصها من الازمة الحالية ان كفاءة الدولة وقدرتها على تقديم الخدمات العامة وخاصة تلك المتعلقة بالتنمية البشرية تشكل نقطة محورية في قدرتها على مواجهة الازمات وادارتها بشكل ملائم.
كما لا يخفى ان ما نشهده اليوم من تطورات اقتصادية في مختلف دول العالم أعاد التأكيد على أهمية القطاعات الانتاجية وخاصة تلك التي تعزز الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي للمواطنين مع التركيز على عوامل السلامة والاستدامة، أضافة لذلك فقد برزت أهمية قطاع تكنولوجيا المعلومات وضرورة توفر بنية أساسية صلبة لهذا القطاع فمن خلاله يمكن ضمان استدامة عمل قطاعات اقتصادية مهمة من خلال العمل عن بعد بما في ذلك القطاع التعليمي، كما ان توفر البيانات والقدرة على تحليلها وتقييمها بشكل ملائم وتوقيت جيد يشكل عاملاً اساسياً لكفاءة الاجراءات المختلفة،ومن المهم ايضاً تعزيز شبكة الامان الاجتماعي، والسير قدماً في انجاز التأمين الصحي الشامل، وتوسيع مظلة الحماية من التعطل عن العمل.
يحق لنا ان نفخر بما حققناه حتى الان من نجاح في ادارة الازمة الراهنة وفي مختلف المجالات، وكلنا أمل انه وفي ظل التوجيهات الملكية السامية سنكون قادرين على اعداد البرامج والخطط ذات المرونة العالية والقابلة للتطبيق على أرض الواقع، واتخاذ القرارات والاجراءات الحازمة والفاعلة التي تخدم الوطن والمواطن، وللحديث بقية حول نفس الموضوع و بشكل تفصيلي و قطاعي.